مغامرة في عمق البحر
كان ذلك في أحد صيفيات طفولتي، حين كنّا نقيم مخيّمنا العائلي على شاطئ شطّ مريم، بين رائحة الملح وعطر الحقول الممتدة من أكودة إلى تخوم الساحل. كان أبي آنذاك بعيدًا في عمله العسكري، يخدم الوطن في صمتٍ ونكران ذات، فحملت أمّي، تلك المرأة الصبورة القوية، مسؤولية رعايتنا نحن الأبناء الستّة: أربعة أولاد وبنتين، في ضيعتنا التي كانت تزهو بكروم البطيخ واليقطين، وتظللها شجرة توت شامخة تتوسط المكان كرمزٍ للحياة. تحت ظلّ تلك الشجرة، انتصب عريش بسيط صنعه أبي من أعواد الصنوبر وحزم القشّ، ليكون مأوانا في القيلولة، ومجلس أحلامنا الصغيرة.
استيقظت فجر ذلك اليوم على صياح الديكة والديك الروميّ الذي كان يصول في فناء الحقل. كان الهواء نقيًّا كأنّه أول نَفَسٍ للكون،
فاغتسلت بضياء الصبح،
وتناولت فطوري البسيط على عجل، ثم أمسكت بقناع الغطس، وبقضيب حديديّ في طرفه رأسٌ مذبّب، أستعين به في صيد الأخطبوط. توكّلت على الله، وسرت بخطواتٍ متحمّسة نحو البحر الهادئ الذي بدا كمرآة من فضّة تحت شمس الصباح الأولى. بلّلت قدميّ بمياهه الدافئة، ثم ارتميت في أحضانه كطفلٍ يهرع إلى صدر أمّه، وبينما كنت أبتعد شيئًا فشيئًا عن الشاطئ، كانت طيور النورس تودّعني بصيحاتها المميّزة، كأنها تغني لبدء مغامرة جديدة.
بدأت رحلتي بين الصخور والشعاب المرجانية. كنت أغوص دون خوف في الأعماق، أدخل يدي داخل جحور مظلمة بحثًا عن فريستي، غير آبه بما يمكن أن يختبئ هناك من مخلوقاتٍ خطرة: سمك البوكشاش (Rascasse) الشائك، أو البلم السريع، أو حتى العقرب البحري الذي يلسع كالنار. كنت أغامر بجرأة طفولية غريبة، أقبض على الأخطبوط من بين عينيه، أعضّه برفق حتى يسترخي، ثم أثبّته في خيط معدنيّ طرفه فلّينة عائمة حتى لا يسقط في الماء. أحيانًا كنت أجد أخطبوطًا صغيرًا فألعب معه قليلًا قبل أن أُطلقه حرًّا، تاركًا وراءه سحابة من الحبر الداكن كأنه يكتب وداعًا في عمق البحر. أما حين أظفر بأخطبوط كبير، كنت أحتفظ به فخورًا كصيّادٍ صغيرٍ حقّق انتصاره.
مرّت الساعات سريعًا، ولم أشعر أنني ابتعدت كثيرًا عن الشاطئ، حتى رفعت رأسي ووجدت نفسي في عرض البحر. بدأت الحركة تدبّ على الساحل، وامتلأ الشاطئ بالناس، وكانت الشمس قد ارتفعت عاليًا—الساعة قاربت العاشرة. أدركت أن وقت إبحار السفن السياحية التابعة للنزل القريبة قد اقترب، وتذكّرت أن وجودي في هذا المكان خطر، فلا شيء فوق الماء يدلّ عليّ.
وبينما كنت أتهيّأ للعودة، لاحت لي مغارة غامضة أسفل صخرة كبيرة، لفتت انتباهي. اقتربت، غصت نحوها بحذر. كانت على عمق خمسة أمتار تقريبًا. فجأة، لمح بصري عينين تتلألآن في سواد الغار، تنظران نحوي بثباتٍ عجيب. تردّدت لحظة، ثم بسملتُ وتقدّمت. مددت يدي إلى الداخل، شعرت بجسمٍ طريّ ينسحب بسرعة إلى الأعماق. لم أستسلم، تابعت إدخال يدي حتى كدت أمسكه. كان أخطبوطًا عملاقًا لا مثيل له! لكنّ الهواء بدأ ينفد من صدري، وخشيت أن يخرج من جحره فيفلت مني، فقرّرت الصعود لأتزود بالأوكسجين.
وما إن بدأت بالصعود حتى اخترق سمعي صوت محرك قاربٍ قريبٍ جدًا. تسارعت دقات قلبي، ورفعت رأسي لأجد القارب متجهًا نحوي بسرعة هائلة! أحسست أنّ نهايتي اقتربت، فبغريزة النجاة غصت بأقصى سرعة نحو العمق، قبل أن تمرّ المروحة فوقي بثوانٍ. شعرت بدفعة الماء العنيفة تمرّ فوقي، ثم هدأ كل شيء. بنفسٍ متقطّعٍ ضغطت بقدمي على الرمل في القاع، وانطلقت كزنبركٍ معدنيّ نحو السطح، أتنفس الهواء كما لو أني أستعيد الحياة من جديد.
لكنّ المغامرة لم تنتهِ بعد. تذكّرت الأخطبوط العملاق في الغار، وعدت إليه مصمّمًا. مددت يدي داخل الجحر مجددًا... وفجأة علقت يدي بمعصمها تحت حجرٍ ضخم! تجمّدت في مكاني. الأوكسجين ينفد، والرعب يزحف إلى صدري كجدارٍ بارد. حاولت سحب يدي فلم تنفك. شعرت أن نهايتي ستكون هنا، في هذا الصمت الأزرق العميق. لكنّ صوتًا خافتًا في داخلي همس: اهدأ... لا تفزع... اجثُ على ركبتيك، وارفع الحجر بهدوء.
أطعت ذلك الصوت، وكأن قوة غامضة تسري في عروقي. دفعت بركبتي نحو الرمل، وضغطت بكل ما فيّ من طاقة، وإذا بالحجر يتحرك! تحررت يدي. شعرت أن ملاكًا قد كان معي. والغريب أنني، رغم الخطر، لم أتخلَّ عن فريستي! أمسكت بالأخطبوط العملاق وصعدت به إلى السطح، لكنه التصق بي بجسده المائع حتى غطّى وجهي وكتم أنفاسي. بكلّ ما تبقى لي من قوّة، نزعته وعضضته بين عينيه حتى استرخى، ثم حملته معي إلى الشاطئ.
كانت الشمس تميل نحو الغروب حين خرجت من البحر متعبًا، أجرّ خلفي الأخطبوط كغنيمة نصرٍ بعد معركة طويلة. وعلى الضفة، كانت أمّي وإخوتي يهرولون نحوي، ووجهها يشرق بدموع الفرح، بين خوفٍ كان وكأنه الموت، وفرحٍ كأنه الحياة. نظرت إليها، وابتسمت. في تلك اللحظة أدركت أن ذلك الملاك الذي أنقذني، لم يكن سوى دعاء أمّي ورضاها الذي ظلّ يحميني حتى في ظلمة البحر.
حين جلست على الرمل، أنفاسي متقطّعة، وقطرات البحر تلمع على وجهي كأنها دموع امتنان، أحسست أن الحياة منحتني فرصة أخرى. نظرت إلى ذلك الأخطبوط الممدّد بجانبي، ساكنًا كجبل من لحم البحر، وابتسمت له كأنّه خصم قديم هُزم بشرف.
اقتربت أمي، ثوبها مبلّل من ركضها في الموج، احتضنتني كما لو كنت ما زلت الطفل الصغير الذي كانت تخبّئه من البرد تحت عباءتها. لم تقل شيئًا، فقط وضعت يدها على شعري المبلّل وهمست: “الله ستر يا وليدي... البحر ما يرحمش.”
أحسست بحرارة الدعاء في كلماتها. كان إخوتي يصفقون من بعيد، وأختاي تحملان سلّة التوت التي تساقطت من الشجرة الكبيرة في الصباح، كأنهما تُهديانني نصرًا صغيرًا من الأرض للبحر.
في تلك اللحظة، وأنا أضع الأخطبوط في الدلو، نظرت إلى الأفق البعيد، حيث كانت الشمس تغوص في البحر ببطء، بلونٍ يشبه دمج النار بالذهب. قلت في نفسي: “كم يشبه البحر الحياة... يمنحك لؤلؤه حين تغوص إليه بشجاعة، لكنه يختبر صدقك قبل أن يعطيك.”
في تلك الليلة، جلسنا جميعًا حول موقد صغير أمام الخيمة، وضعت أمي الأخطبوط في قدر من الماء والملح، كان البخار يصعد كغيمة صغيرة نحو السماء. رائحة البحر اختلطت برائحة الأرض، وشعرت لأول مرة أني أصبحت رجلًا حقيقيًا، لا بخبرة الصيد، بل لأنني واجهت الخوف... وعُدت منه شاكرًا.
ومن يومها، لم يعد البحر يخيفني. صرت أزوره كل فجر، لا لأصطاد فقط، بل لأتحدث معه، كصديق قديم نجونا معًا من الموت.







