العم سعيد القرنيط

ثعبان العريش - ذكريات العم سعيد القرنيط

الكُنس- ذكريات العم سعيد القرنيط

كانت المزرعة الشاطئية في الطنطانة بالنسبة إلينا جنة الطفولة، رملها الذهبي يمتد كأنه سرير البحر، ونسيمها الدافئ يحمل رائحة الزيتون والملح. هناك، تحت شجرة الصفصاف الكبيرة، كان عريشنا القشّيّ يحتضن ضحكاتنا ويجمعنا حول قصص أمي عن زمنٍ بعيد حين كان أبي في الجيش الوطني.

عريشنا قرب البحر، ظلّ الصفصاف يغمره بالسكينة.

وذات صيفٍ آخر، دخل إلى ذاكرتنا فصل جديد من الحكاية... جارنا العم سعيد، الذي كنا نلقّبه بـ"القرنيط" لشدّة حبه لصيد الأخطبوط، كان يسكن عريشًا صغيرًا على طرف البحر، لا يبعد عن مزرعتنا سوى خطوات قليلة. رجل نحيل، أسمر كالجلد المحروق بالشمس، دائم الابتسامة رغم ملوحة الحياة. أمام عريشه قاربٌ خشبيّ قديم يتبع لعائلة عمّ محمد ومحمود مراد، وكان العم سعيد هو الذي يخيط شباكهم بخيطٍ غليظ بينما يغنّي أهازيج البحر القديمة.

في مساءٍ من أمسيات الطنطانة، بينما كانت الشمس تودّع البحر وتغيب في أفقٍ من نارٍ وسكينة، قرر العم سعيد أن يذهب مع أولاد عمّ محمد ومحمود، وولديه التيا وشويشا، في رحلة صيدٍ إلى أعماق البحر. حملوا معهم ما يسمّى بـ"الكنس" — خيط صنّارة طويل جدًا، في كل نصف متر منه صنّار غليظ مملوء بطعمٍ من السردين أو بأصابع القرنيط التي اصطيدت ليلة البارحة.

وضع العم سعيد الخيط في قصعةٍ خشبية كبيرة، ولما بلغوا الأعماق، بدأوا بمدّه شيئًا فشيئًا على سطح البحر، فيما كان القارب يتهادى على الأمواج كأنه ورقة على صفحة الزبد. ثبّتوا في طرفي الخيط عوامتين من الفلين، وأطلقوا الخيط الطويل الممتد لنحو خمسمئة متر. كانت الساعات تمرّ ببطء، وصبر البحارة يُختبر كما لم يُختبر من قبل.

قارب العم سعيد ينطلق في الأفق نحو المجهول الأزرق.

أمّا نحن، أطفال الشاطئ، فكنا نركض حفاة على الرمل الدافئ نلوّح بأيدينا الصغيرة كلما نظرنا إلى القارب البعيد. بدونا في أعينهم كنملٍ على ضفةٍ لا تنتهي، بينما كانت أصواتنا تتلاشى شيئًا فشيئًا مع الريح.

ومع اقتراب الغروب، خيّم الصمت وارتسم القلق على وجوه الأمهات، حتى قطع سكون البحر صوت طقطقة مفاجئة من جهة القارب، تلاها صياح العم سعيد: «هيا... هيا يا رجال!» سمعناها من بعيد، وتبعها دويّ الأهازيج والضحك. بدأ القارب يقترب من الشاطئ، وأضواء المغيب تتراقص على سطح الماء كأن البحر نفسه يحتفل.

عودة القارب وصيد وفير من سمك ...

فجأة، بدأت الأسماك تتطاير من القارب قبل أن يرسو تمامًا. صرخ أحدهم: «إنه صيد وفير! إنه الحصيرة!» اندفع الجميع من أكواخهم، أطفالًا ونساءً ورجالًا، والدهشة تلمع في العيون. كانت الأسماك ملساء عريضة كالبسط، ببطون رمادية وذيول طويلة تتلوّى. لم أرَ في حياتي مثل ذلك المنظر.

تكفّلت أمي بطبخ أول وجبة، «المعكرونة بالحصيرة»، ويا له من طعم! ظللنا أسبوعين نأكل منها حتى التخمة، ومع ذلك لم نملّها. صار طعامنا اليومي وعيدنا المسائي، بينما الصيادون يبيعون ما تبقى في السوق ويجنون مالًا وفيرًا. أما العم سعيد، فكان يجلس عند باب عريشه بعد كل وجبة، ينظر نحو البحر بعينيه اللتين تشبهان لون الموج، ويقول مبتسمًا: «البحر يعطي من يصبر عليه... مثلما الأرض تعطي من يحبها.»

وها أنا اليوم، كلما عدت إلى ذكريات الطفولة في الطنطانة، أشمّ رائحة الملح مختلطة بدخان القشّ، وأسمع من بعيد صوت العم سعيد يغنّي وهو يخيط شباكه، وكأن الزمن لم يمضِ قط.

— يتبع في ذكريات أخرى من صيفٍ لا يُنسى —

إرسال تعليق

أحدث أقدم

إعلان أدسنس أول الموضوع

إعلان أدسنس أخر الموضوع