ثعبان العريش
كان الصيف يهبّ علينا بنسماته الملحية. في مزرعتنا الصغيرة عند الطنطانة، حيث يلتقي الرمل بالزرع، تنبت الدلاع والبطيخ واليقطين الأحمر (Pasteque et Melon et Courge rouge). أمام العريش كانت شجرة صفصاف عتيقة تُهدي الظل، وحيث تجمعنا كنا نصنع من الرمل قصورًا ونحلم برحلات إلى البحر.
العريش كان بيتًا بسيطًا: سقفه من القش، وجدرانه من أغصان الزيتون وأعواد الصنوبر. كنا ستّة: أنا عادل، وإخوتي علي، عاطف، عماد، وأختاي بسمة وعواطف. أمّي كانت تلك العين الحانية التي ترعانا عندما يكون أبونا في الجيش الوطني التونسي؛ كانت تطبخ، تغسل، وتروي لنا قصص الماضي لنتشبّع بالشجاعة والقيم.
كانت أيامنا تمضي بين اللعب والحصاد. تأتينا رائحة البحر حين تحملها الريح، ونرى القوارب الصغيرة تمرّ على امتداد الأفق. أمّا النوم فكان في العريش، حيث تتكاثر الأصوات: حفيف القش، همسات الجيران، وبعيدةً عن كل ذلك ظلّ عيونٍ تراقبنا في الليل — لا نعرف إن كانت حميدة أم لا.
وذات ليلةٍ، بينما كنا نغطّ في سباتٍ عميق، فتحت عيني وبصقتُ ضوءَ القمر بين فتحة السقف. رأيت شيئًا يتلوى بين القش: ثعبان نحيل لامع. توقّف الزمن لبرهة؛ نظرت إليه ونظر إليّ نظرةٍ جمّدتني. همست بأقصى صوتي إلى أمي: "أمي... أمي، هناك ثعبان!"
ردّت أمي بهدوءٍ محنك لا يزعزع: "لا تخف يا ولدي، سنتركه حتى يأتي أبوك من الجيش. هو يعرف ما يفعل." قلت: "ومتى يأتي أبي؟" فابتسمت وقالت: "بعد شهر."
وبالفعل، صار الثعبان جزءًا من روتيننا؛ كنا نراه يختبئ في القش أحيانًا، نسمع حركته بين الفروع أحيانًا أخرى. لم يؤذِ أحدًا، وربما اعتبرناه ضيفًا غريبًا. كنا ننام ونستيقظ وهو هناك، وعاشت بسمة وهو صغير تتحدّث معه كما تتحدث إلى قطٍ مدلّل.
مرت الأيام حتى جاء الصباح الذي ظهر فيه صوت السيارة على الطريق. ركضنا نحو الطريق حفاةً، والوجوه كلها ضحك وبِشر. كان أبي بزيه العسكري، بخطوات ثابتة وبابتسامة تُخفف عنّا طول الغياب. هرعنا إليه ورمينا أنفسنا في حضنه، وأخرج من حقيبته حلوى وشوكولاتة وألعابًا صغيرة من تطاوين — هدية من رمال الجنوب.
لم تترك أمّي فرصةً للحديث كثيرًا؛ أمسكّت بيد أبي وهدته نحو العريش حيث كان الثعبان. لم يمضِ كثير من الوقت حتى أسرع أبي بالحركة: أخذ المسحة بيدٍ قوية، وحركها بحرفية، ثم جذب الثعبان وطرحه أرضًا. التفت بنا وهو يلتقط الثعبان من ذيله، ودور به في الهواء ثم أسقطه ضربة قوية أنهت أمره. صرخنا جميعًا: "الجندي... الجندي البطل!" وملأت هتافاتنا المكان فرحًا وفخرًا.
"الشجاعة ليست أن لا تخاف، بل أن تفعل ما يجب رغم الخوف."
جلسنا ذاك المساء حول أبي، ونحن نستمع إلى حكاياته عن الجيش والرحلات وأيام الغياب. كان يروي لنا بحنان، ونحن نستسيغ طعم الشوكولاتة ونشمّ عبق البحر من بعيد. علّمنا أن المسؤولية تبدأ من البيت، وأن الرجل الشجاع ليس من يطلب الحرب بل من يحمي من يحبّه.
ومنذ تلك الأيام، بقيت صورة العريش والصفصاف وأمّي التي لا تخاف، وأبي الذي يحمل المسحة كرمزٍ لكل ما يحمي. وفي كل صيفٍ نعود إلى الطنطانة، نصنع فيها أبسط الأشياء ونحمل ذكريات كبيرة: ثعبانٌ واحد، عناقٌ طويل، وطفولة حُفِرت في الرمل وتحت ظلال الصفصاف.
— يتبع في ذكريات أخرى من صيفٍ لا يُنسى — من لديه ذكرى طفولته يرسلها اليا عبر رابط المدونة"اتصل بنا...



