رائحة الملح والطحالب

🌅 رحلة الصيف إلى شطّ مريم

كان ذلك في صباي، حين كانت الطفولة تشبه نغمة عصفور دوريّ عند بزوغ الصبح، لا تعرف إلا الفرح والدهشة.

كلّ صيف، ما إن نطوي آخر صفحة من دفاتر الدراسة، حتّى نبدأ فصلاً جديدًا من المغامرة... فصلًا لا يُكتب بالحبر، بل برائحة الملح، وبصوت الأمواج، وبصهيل الحمار الذي كان رفيقنا إلى شطّ مريم — تلك المنطقة الفلاحية الخضراء المنبسطة بين أكودة وسوسة، قطعة من الجنة على أرض تونس.

مع أوّل خيوط الفجر، حين "إذا الصبح تنفّس"، كانت مهمّتي المقدّسة تبدأ.

أتّجه نحو حقل جدّي "العربي" — رحمه الله — حقلٌ تفوح منه رائحة التراب المبتلّ، وتغنّي فيه السنابل للريح. كنت أذهب لأحضر الحمار الذي سيحملنا نحو البحر، يقطع بنا ما يقارب الخمسة كيلومترات من الطريق الريفيّ، طريق تحرسه الأشجار وتغمره العصافير بالتحايا.

في البيت، كان أبي عمّار — رحمه الله — يستعدّ بطريقته الدقيقة، كما يفعل الجندي في مهمّة شرف:

يضع البردعة بعناية على ظهر الحمار، ويعلّق الشارِيَتين يمينًا ويسارًا ليحملا الأمتعة، والمؤونة، والفرش.

ثمّ تتقدّم أمّي جميلة، بوجهها الهادئ وصبرها الفلاحيّ المعروف، لتقود الحمار بخطوات واثقة.

على اليمين تجلس أختي عواطف في الشارية الأولى، وعلى اليسار عاطف، أما عماد "الصغرون المدلل فمكانه امام امي بينما كنت أنا وأخي علي وأختي بسمة نسير خلف القافلة على أقدامنا الصغيرة، كأننا في موكب العائلة السعيد.

كانت المسافة طويلة، لكنّ الطريق نفسه كان يُنسيك المشقّة.

يا له من طريق!

يمرّ بين صفوف من الصنوبر العالي، وبين أسيجة من التين الشوكيّ، وصوت صفير الشرار يملأ الأفق، تتبعه زقزقة عصافير الدوريّ والحسّون التونسيّ الأنيق، المعروف عندنا بـ"الشاردناي".

تُرى من بعيد أعشاش "القبّعاية" (القُوبَع)، تلك الطيور العجيبة التي تبني بيوتها في الأرض، بين بقايا الحصيدة الصفراء، وكأنها تؤمن أن الأمان في التواضع لا في العلوّ.

وحين نقترب من ملعب الغولف، كان يصل إلى مسامعنا خرير الماء المنساب من بين العشب الأخضر، فيختلط صوت الطبيعة بعطرها، كأننا نسير في حلمٍ لا يريد أن ينتهي.

ثمّ، ومع صعود الحمار إلى ربوةٍ صغيرة، تظهر لنا شيئًا فشيئًا ملامح البحر...

يا الله! ما أجمل تلك اللحظة!

تشمّ رائحة الطحالب والملح قبل أن تراه، وكأنّ البحر يرسل لنا تحيّة من بعيد.

هناك، في الأفق الأزرق، كنا نرى الحرية تتجسّد أمامنا.

على مقربة من الشاطئ، تمتدّ مزرعة البطيخ واليقطين التي زرعها أبي بعناية الفلّاح العاشق.

بذورٌ زرعها بيديه، وسقاها بعَرَقِه، يحرسها من الخنفساء ويحيطها بنبات الحلفاء لتحتمي من الرياح، حتّى تكبر وتزهو كأبنائه تمامًا.

لكن ما إن تلامس أقدامنا الرمال الحارقة حتى تبدأ رقصة الألم والفرح!

الرمال تشوي الأقدام الصغيرة، وأشواك "الحنزاب" — أو كما نسميها ضرس العزّوز — تلسعنا في كلّ خطوة.

ورغم ذلك، كنّا نضحك ونجري نحو البحر، نرتمي في حضن أمواجه الزرقاء، ننسى كلّ التعب، ونغتسل من حرارة الصيف ومن مشاغل الدنيا.

إلا أنّ حادثةً وقعت ذلك الصباح ظلّت محفورةً في ذاكرتي إلى اليوم، رغم مرور أكثر من أربعين سنة...

بينما كان أبي يجهّز الحمار للرحلة، إذ بالحمار فجأة يصيبه نوع من البلادة أو الغضب، وركله بقدميه الخلفيتين على صدر أبي!

تجمّدنا من الخوف!

لكن ما حصل بعد ذلك لم أنسه قطّ:

لم يسقط أبي، ولم يتزحزح قيد أنملة!

بل أمسك الحمار من ساقيه الخلفيتين، ورفعه إلى الأعلى بقوّةٍ لا تصدّق، ثمّ دفعه إلى الأمام كأنّه يبعد عن نفسه ذبابة.

وقف الحمار مذهولًا، ثمّ أطلق صرخة نهقٍ طويلة، وكأنّه يبكي من الندم، قبل أن يطأطئ رأسه ويحرك ذيله بخجلٍ واضح.

ومنذ ذلك اليوم، لم يعصِ أبي أبدًا... صار الحمار يطيعه كما يطيع الابن أباه.

تلك الواقعة، رغم بساطتها، كانت أول درسٍ في حياتي عن الهيبة والرحمة معًا.

هيبة الأب الذي لا ينهزم، ورحمة الإنسان الذي يغفر حتى لحيوانٍ أخطأ في لحظة طيش.

وهكذا، تواصلت رحلاتنا الصيفية عامًا بعد عام، نعود إلى البحر ذاته، والطريق ذاته، والأصوات ذاتها...

لكن ما تغيّر هو نحن.

كبرنا، وتفرّقنا، وبقيت الذكرى وحدها تروي نفسها كلّما مرّت نسمة من شطّ مريم تحمل رائحة الملح والتين الشوكي.

📌 اقرأ أيضًا: ثعبان العريش...

— يتبع في ذكريات أخرى من صيفٍ لا يُنسى — من لديه ذكرى طفولته يرسلها اليا عبر رابط المدونة"اتصل بنا...

إرسال تعليق

أحدث أقدم

إعلان أدسنس أول الموضوع

إعلان أدسنس أخر الموضوع