حين قبّل التراب
ليلةٌ من ليالي الكونغو — الغابة تلفّ المخيّم، والهواء مُشبع برطوبةٍ ثِقْلة، والقمر يختبئ وراء أوراقٍ ضخمة. كان أبي واقفًا في نوبته الليلية، يثبّت يده على بندقيته كما لو أنّها آخر شيء يملك.
لم يكن الخوف يزرع في صدره جذورًا، لكنّ كلّ صوتٍ غريبٍ يُعلّم بمدى عزلتهم: همسات العشب، وقع أقدام بعيدة، وصدى عواءٍ متقطّع يأتي من قلبِ الغابة. العواء لم يكن منفردًا؛ كانت مجموعةٌ من الذئاب — أو الضباع — تدور حوالى المخيّم، تستشعر رائحة البشر والدفء واللحم.
لم تُخلّف الغابة له رفيقًا سوى صندوق خشبي، بقايا زيت لقناديل، وقطعة قماش بالية. لم يبادر إلى إطلاق النار، بل دبّر حيلةً من رجولةٍ وحنكةٍ بدائية: أمسك بالإسفنجة المبللة بالزيت، وملأ بها قماشة قديمة، ثم أضاءها وألقى الحِزَم الصغيرة من النار على شكل دائرةٍ خفيفة تحيط بموقعه.
كان يعلم أنّ النار تُربك الحيوان البريّ وتبعده. وقف مركزًا داخل تلك الدائرة، وعينه ترقب كلّ ظلّ، يطلق صوتًا منخفضًا هنا وهناك ليتبع أثر حركةٍ، ويصدّ أو يحبط أيّ محاولة اقتحام. تحوّل الليل الطويل إلى اختبارٍ للصبر والشجاعة؛ ومع كلّ عواءٍ يقترب كان يبعثر حمولة من الرمق والصبر، حتى تلاشى العواء تدريجيًّا في عمق الغابة.
"ما يستحق أن يُروى ليس مقدار الخطر، بل لحظةُ القرار التي تختار فيها أن تبقى على السيف أو تهرب عنه."
في الصباح صاح الجنديّون: لم يُصِبْهُ شيء، لم تُمسّ جسده رصاصة، ولم يُجرَح. لكنّ أعينهم سَلّمت له بصمت أنّه قد فعل المستحيل. كانت القصة تنتقل بينهم بهمسات طويلة: "الرتّال التونسي الذي صدّ ذئاب الكونغو بنارٍ وصبر". وهو؟ لم يذكر الحكاية لأحد، كأنّما جاءته كواجبٍ صامتٍ لا يطلب جائزة.
سار به القدرُ سنواتٍ أخرى، حتى جاء خبرٌ سكب في صدره لهبًا جديدًا: معركة بنزرت. الوطن ينادي، والصّبر يتحوّل إلى حزنٍ يشتعل. كانت ساقه مكسورة — جبس أبيض يقيّد عظمةً باعتناء— لكنّ قلبه رفض أن يبقى بعيدًا بينما تُختبر كرامة المدينة ودماء أهلها.
ذهب إلى المشرفين طالبًا العودة، فكان الرفض جوابهم. فاقترب من ساريةٍ إسمنتية قرب الخيمة، وربط رجله بالجبس إلى تلك السارية، ثم ضربها بكلّ قوة، متعمّدًا تحطيم قالب الجبس ونزع القيود. عندما تحطّم الجبس على شكل شظايا بيضاء، التفت إلى رجال القيادة وقال بصوتٍ فيه ثقل الحنين وهدوء القرار:
"ها أنا بخير. أُريد العودة إلى أرضي. دعوني أُساهم."
لم يكن هذا فخمًا، بل فعلًا يملؤه استحياء الرجولة. ارتبك القائد، واحتكم ضمير المجموعة إلى الرحمة: أُعطي إذنُ العودة. رفعت له جناح الطائرة، ورحلته إلى وطنه — لكن الحياة لها توقيتها. عندما وصلت الطائرة وهبط بابها، لم يهمّه الاستقبال ولا التكريم، بل فعلٌ واحد شفّ عن عمق الولاء.
نزل من الدرج. لم يمد يده لتحيّة أحد، بل انحنى على ركبتيه، سجد، وقبّل التراب التونسيّ بقهقهةٍ من الدموع، كأنّ الأرض ردّت له شيئًا من نفسه الضائع. كانت لحظةٌ بليغة: دموعٌ حزينة، فرحٌ لا يُقاس، والتسليم بأنّ الواجب قد نال طريقه مهما طال الزمن.
حين بلغ خبر وصوله أهل البلدة، تبيّن أنّ معركة بنزرت قد انتهت قبل وصوله؛ انتهت بالدموع والقصص والندب على ما مضى. لم يشعر بالإخفاق؛ بل بشعورٍ أعمق: أنّه قد حاول، وأنّ قلبه كان حاضرًا دومًا. لقد علّم أولاده أن الشجاعة ليست فقط في الانتصار، بل في الاستعداد للتضحية حتى لو لم تُكتب لك فرصة التشريف.
في آخر أيّامه كان يحتفظ بجبسٍ محطمٍ داخل صندوق خشبي على رفّ في البيت. كلّما مرّ أحدٌ من أولاده بجواره، يلتفت ويناديهم بهدوءٍ خافت:
"تذكّروا: الوطن ليس أرضًا فقط، بل هو وعدٌ لا يموت في قلوبنا."
وهكذا، انتهت فصلٌ من حياته: رجلٌ عرف كيف يُواجه ذئاب الكونغو بحيلةٍ ذكية، وكيف يكسر قيود الجبس ليعود إلى وطنه لعلّه يُحضِر نصيبًا من العدالة. لم يسعَ إلى ذِكر البطولات في المجالس، بل حفظها صمتًا، وبقيت تُروى لنا نحن الأحفاد كشعلةٍ تُذكّرنا بمعنى الوفاء.


