🕊️ الفِتْيَةُ وأسرارُ الكَهْفِ
في مدينةٍ قديمةٍ ذاتِ أسوارٍ عاليةٍ وأبراجٍ مُشْرِفَة، كانت الأسواقُ تضُجُّ بالخطى، والقلوبُ تشغَلُها الأصنامُ والهيبةُ من سطوةِ ملكٍ لا يُعصى له أمر. وفي ظلِّ هذا الضجيج، نشأت قلوبٌ شابّةٌ فتيّةٌ تهفو إلى نورٍ واحدٍ لا يخبو—نورِ ربِّ السماوات والأرض.
🌟 اللقاءُ الأوّل
في بستانٍ هادئٍ على طرفِ المدينة، حيثُ يتدلّى التينُ ويعبقُ الرّمَّان، اجتمعَ ثلاثةٌ من الفِتْيَة: يَمْليخَا، مَكْسَلْمِينَا، مَرْطُونُس. كانوا يتهامسون خشيةَ العيون، لكنّ كلماتِهم كانت أثقلَ من الخوفِ وأصدقَ من الصدى.يمليخا: ما لنا نرى القومَ يسجُدون لحجرٍ لا يسمعُ ولا يُبصر؟ أفي السماءِ ربٌّ واحدٌ يُدبّر الأمر؟
مكسلمينا: وجدتُ الطمأنينةَ حين دعوتُ الإلهَ الحقّ، كأنّ قلبي سَكَنَ إليه.
مرطونس: ولكن ماذا نفعل؟ إن سَمِعَ بنا الملكُ عذّبنا، وإن سكتنا فُتنّا.
اتّسعَ الصمتُ لحكمةٍ، ثم قال يمليخا: لن نعودَ إلى باطلٍ ولو اجتمعَ علينا أهلُ الأرض. كانت تلك اللحظةُ عهداً سرياً بين أرواحٍ قرّرتْ أن تُشْرِق.
🏛️ في ساحةِ القصر
لم يَطُلِ الغيابُ حتى بلغتِ الملكَ وشايةٌ، فجيءَ بالفتيةِ إلى الساحةِ الكبرى. تهاوتِ الهمساتُ، وارتفعتِ العيونُ إلى العرش. قال الملكُ بصوتٍ جهوريّ:
الملك: بلغني أنّكم سخرتم من آلهتنا! من ربُّكم؟
يمليخا: ربُّنا ربُّ السماواتِ والأرض؛ لن ندعوَ من دونه إلهاً. كيف نسجدُ لما لا يخلقُ ولا يرزق؟
اضطربَ الجمعُ بين مصدّقٍ ومكذِّب، وأشار الملكُ إلى الحرّاس: غداً يكونُ عقابُهم عبرةً.
🌌 قرارُ الهُروب
في ظلمةِ الليل، اجتمعَ الفتيةُ في محبسِهم، تتهجّى قلوبُهم الصبر. قال مرطونس: إنْ بقينا هلكْنا، وإنْ خرجنا فلنا في الجبالِ فسحةُ الحريّة. فأجاب مكسلمينا: لنسلكْ دربَ الصدقِ إلى ملجأٍ يعصمُنا بذكرِ الله.
تسلّلوا تحتَ قمرٍ نحيل، يَقِصّ عليهم الظلُّ خطاهم، حتى بلغوا سفحَ جبلٍ تعانقه أشجارُ الزيتون والعرعر، وهناك بدا الكهفُ كأنّه بابٌ إلى سكينةٍ لم يعرفوها من قبل.
🏔️ ظِلُّ الكهف
جلسوا على صخرةٍ تُشْرِفُ على بابِ الكهفِ، تتنفّسُ الفجر. كانت السكينةُ تُظلّل أرواحَهم، وكأنّ رحماتٍ خفيّةً تُهيّئُ لهم مقاماً. ثم غلبهم النُّعاسُ واحداً تلوَ آخر… وابتدأتْ آيةُ الزمنِ هُنا.
⏳ تَعَاقُبُ القُرون
مَلَكَ من بعدِ الملكِ مُلوك، وتبدّلتِ الأزمنةُ والرُّقى واللغات. غاضتْ أخبارُ الفتيةِ بين الحكايات، وبقيَ الكهفُ صخرةً على سفحٍ بعيد. وفي الصدورِ القريبةِ من الحقِّ بقيَ الهمسُ: فتيةٌ خرجوا لله.
🌄 الاستيقاظ
فتح يمليخا عينَه على شعاعٍ يتسرّبُ كالخيطِ الذهبيّ، فتثاءب وقال: كم لَبِثْنا؟ كأنّنا نمنا يوماً أو بعضَ يوم. ثم نهضَ أصحابُهُ من حوله كأنّ الزمانَ لم يَمْسَسْهُم. قال مكسلمينا: ربُّكم أعلمُ بما لَبِثْتم. فلنرسلْ أحدَنا إلى المدينةِ يأتينا برزقٍ حلال.
يمليخا: سأذهبُ. أوصوني بالحذر.
مرطونس: خُذْ هذه الدَّراهم… واحذرْ أن يَشْعُرَ بكَ أحد.
🏙️ مدينةٌ لا تُشبه الأمس
حين وطِئ يمليخا أطرافَ المدينة، فوجئ بأسوارٍ جديدةٍ ومساجدَ عامرةٍ يُذكرُ فيها اسمُ الله علناً. دخل السوق، قدّمَ دَراهمَه لبائعِ خبزٍ، فتجمّع الناسُ حولَه دهشةً:
بائع الخبز: يا هذا، من أين لكَ هذه النقود؟ إنها من عهدٍ غابر!
يمليخا: نحنُ فتيةٌ خرجنا بدينِنا فراراً إلى كهفٍ… ثم بعثَنا الله!
سيقَ يمليخا إلى حاكمٍ صالحٍ، فقصَّ عليه الخبر. وقف الحاكمُ مبهوتاً وقال: سبحانَ من يُحيي العظامَ وهي رميم، لقد تناقلَ أجدادُنا قصةَ فِتْيَةٍ خرجوا لله، ولم نعلمْ لهم أثراً.
👣 وفدُ المدينة
خرج الحاكمُ مع العلماءِ والناسِ أفواجاً صوبَ سفحِ الجبل. كان النسيمُ أندى، وكأنّ الطريقَ تعرفُ أقدامَ الراجعين. عند بابِ الكهف، كان الفتيةُ ينتظرون يمليخا، فقصَّ عليهم ما رأى من تبدّلِ المدينة وإيمانِ أهلِها.
امتلأتِ العيونُ بالدمعِ الحميد، وسجدتِ القلوبُ شكراً. صلّوا في الكهف صلاةَ العائدينَ مُطمئنين، ثم توفاهم اللهُ رحمةً وكرامةً حيثُ سكنوا.
🏗️ مسجدٌ عند الباب
تشاور الناس—فمنهم من قال نبني عليهم بنياناً، ومنهم من قال لنتخذنّ عليهم مسجداً—ثم اتُّخذ عند بابِ الكهف موضعُ صلاةٍ وذكرى، تقصده القلوبُ قبلَ الأقدام، وتُروى عنده حكايةٌ لا تُنسى: أنّ الإيمانَ إذا استقرّ في القلبِ رفَعَ صاحبَهُ فوقَ جبروتِ الزمان.
💡 عِبَرٌ باقية
- الإيمانُ نورٌ يُبصِرُ بهِ الفتى طريقَهُ ولو أُطفئت جميعُ المصابيح.
- الصبرُ على الحقِّ يطوي القرونَ كصفحةٍ يُقلّبُها طفلٌ مُطمئنّ.
- من خرجَ للهِ وجدَ اللهَ أقربَ إليه من خوفِه ومن أعدائِه.
📘 فائدة لغوية وبلاغية
يقال: «آوَى إلى الكهف» أي لَجَأَ إليه. و«الرَّشَد» إصابةُ الحقِّ في القولِ والعمل. واستعارةُ «نور الإيمان» تُجسِّد المعنى الغائب في صورةٍ مُشاهَدةٍ تُسعفُ الخيالَ وتثبّتُ الدلالة.
تبقى هذه القصةُ—بامتدادِ أنفاسِها—مرآةً للروحِ حين تبحثُ عن يقينِها. لقد تغيّرتِ المدينةُ، وتبدّلَ الزمان، لكنّ سرَّ الثباتِ لم يتغيّر: قلبٌ أخلص لله، فحَفِظَهُ اللهُ بما لا يُدركُهُ الحساب.



