الجزء الثاني: الهروب الكبير وخطة سيناء – أسرار الرمال والخيانة
كان السجن المنيع في قلب العاصمة أشبه بحصن حصين، تحيطه الأسوار العالية والكاميرات الحرارية والبوابات الإلكترونية. لكن السيساوي، العقل المدبر الذي لا يُقهر، لم يكن يُخطط للهروب كأي سجين عادي، بل كما تفعل المافيا الإيطالية في أفلامها المظلمة.
ليلة الخميس، وبينما كان السجناء نائمين، تسلل صوت الموسيقى الكلاسيكية من غرفة الحراس. كانت الإشارة. في الداخل، خُبئت أدوات الحفر الدقيقة في صفحات كتب دينية موثوقة لم يشك بها أحد. عمل السيساوي بصمت، ومعه ثلاثة من أعوانه، عبر نفق صنعوه تحت الزنزانة طيلة أشهر. خرجوا من فتحة تصريف مهجورة تؤدي إلى نهر ملوث يبعد عن السجن كيلومترًا.
ما إن وطأت قدماه أرض الحرية، حتى انطلق نحو فيلا سرية في ضواحي الجيزة، حيث كان في انتظاره رجلٌ أكبر منه في السن، يطلقون عليه "النتن". رجل لا يُعرف له اسم حقيقي، لكن بصماته موجودة في كل قضايا الفساد الكبرى منذ 1992.
استقبل النتن تلميذه العائد بابتسامة خبيثة، وقال:
"آن الأوان يا سيساوي... عندي لك خطة ستجعلنا نمتلك نصف سيناء دون أن نطلق رصاصة واحدة".
كانت الخطة عبقرية في شيطنتها. سرقة أراضٍ لا عن طريق العنف، بل عبر القانون. اختراق إداري، وثائق رسمية، وتواطؤ خفي من داخل وزارة الداخلية. العنصر المفاجئ في اللعبة: "الوجه الفني".
أُدخل الفنان الشهير، واسمه رمزيًا "كريم الصافي"، كمحور رئيسي في العملية. كان محبوبًا من قبل العامة، خاصة أهل المناطق الريفية والصحراوية. صوّروا له فيديو وهو يقف أمام مبنى وزارة العدل، ممسكًا بوثيقة مطبوعة على ورق أصفر ذي ختم ذهبي، وموقعة باسم رئيس مصر المعروف بلقب "بلحة الطرطوري".
"أيها الإخوة الطيبون، هذه ليست سوى فرصة لتعويضكم بأفضل مما تملكون! أراضي ساحلية في الإسكندرية مقابل أراضي مهجورة لا تصلح لشيء في سيناء"، قال كريم الصافي في الفيديو، بلهجته الرقيقة الوديعة.
نُشر الفيديو على صفحات ممولة بعناية، وانتشر كالنار في الهشيم.
بدأ الأهالي الطيبون في توقيع العقود. بأسعار لا تتجاوز خمسين جنيهاً للهكتار الواحد. خلف الكواليس، كان السيساوي والنتن يشترون الأراضي عبر شركات وهمية مسجلة في مالطا، والمُحامي الذي ينفذ العمليات لا يعلم أنه يعمل لصوصًا، بل يظن أنه يسهّل استثمارًا عقاريًا مصريًا في مشروع تنموي.
لكن رائحة الخيانة بدأت تنتشر. أحد شيوخ البدو، يُدعى "الشيخ مزغنّي"، رفض العرض، وشك في الختم. استعان بأحد أقاربه العاملين في المخابرات العامة. هنا بدأت الحكاية تنقلب.
جاء الرد سريعًا. أوفدت المخابرات العامة وحدة خاصة تحمل اسم "نسر الصحراء"، وكان يقودها ضابط غامض يدعى "أيمن الحديدي"، المعروف بذكائه الفذ، وبأنه لا يظهر في الإعلام، ولا يمتلك حسابات إلكترونية.
اخترق أيمن الحديدي سلسلة الشركات المرتبطة بالصفقة في ظرف ثلاثة أيام. وصل إلى بوابة إلكترونية مؤمنة في خادمٍ مستضاف في هونغ كونغ. وهناك وجد المفتاح: مكالمة مشفّرة بين السيساوي ورجل في وزارة الداخلية، اتضح لاحقًا أنه "العقيد م.ف"، مسؤول الأرشيف المركزي، وكان قد تسلم رشوة تُقدّر بـ 7 كيلوغرامات من الذهب لتسريب المرسوم الرئاسي المزور.
لكن لم يكن الأمر سهلًا، فالسيساوي ليس هاويًا. حين شعر أن الأجهزة تقترب، أطلق خطة تضليلية: فجّر مستودعًا للذخيرة في العريش كغطاء، وسرّب إشاعة عن احتمال "تحرك إره-ابي" في الجنوب، لإشغال الأمن.
في الوقت ذاته، كان يخطط للهروب من البلاد، لا نحو أوروبا، بل نحو الجنوب، إلى السودان، ثم تشاد، ومنها إلى مالي، حيث كان ينتظره اتصال مع طائرة خاصة تُقلّه إلى جزيرة غامضة في المحيط الهندي.
ولكن أيمن الحديدي سبقه بخطوة. استدرجهم إلى عملية بيع "وهمية" في بلدة الشيخ زويد. هناك، نصب لهم كمينًا محكمًا.
داخل خيمة بسيطة، وبينما كان السيساوي يراجع الوثائق المزيفة رفقة النتن، اقتحمت الوحدة الخاصة المكان بصمت، كالذئاب. لم يُسمع صوت طلقة واحدة، فقط قن-ابل صوتية، وأوامر دقيقة.
لكن المفاجأة كانت أن النتن لم يكن هناك!
كان الذي أُلقي عليه القبض مجرد دوبلير، ممثل شبيه به، تم زرعه لتأخير توقيت القبض. النتن الحقيقي كان قد عبر إلى الجزائر، متنكرًا في زي حاج تونسي متقدم في السن.
في القاهرة، عُقد اجتماع طارئ على أعلى مستوى، وتم إعلان "العملية 31" كأكبر عملية أمنية ضد تزوير الملكيات العقارية في مصر. أما العقيد الخائن، فقد اختفى قبل ساعة واحدة من تنفيذ الاعتقال، وتشير التقارير إلى أنه عبر حدود ليبيا بجواز سفر دبلوماسي مزور.
المخابرات المصرية أعلنت القضية مغلقة أمام الإعلام... لكن الحقيقة؟ كانت مجرد بداية.
نهاية الجزء الثاني
هل ترغب أن أواصل كتابة الجزء الثالث؟ سيكون أكثر غموضًا ويبدأ من الجزائر، وربما يدخل على الخط عملاء أجانب؟
